المصدر: بقلم الأسير المقدسي: حسام زهدي شاهين- سجن بئر السبع- 23/5/2006:
بعد أنْ سقطت مدينة القدس في قبضة الاحتلال "الإسرائيلي" منذ حزيران عام 1967، كُتِب ولا زال يُكتَب الكثير من المقالات والمؤلفات عن هذه المأساة الكبيرة، التي ألمّت بالشعب العربي الفلسطيني خاصة وبالأمتين العربية والإسلامية عامة، وأكثر ما يحضرني هذه الأيام تلك القصيدة الرائعة والمعبّرة للشاعر العربي الكبير مظفر النواب (القدس عروس عروبتكم) والتي وصف بها حالة القدس بعد الاحتلال مشبّهاً إياها بأدقّ تشبيه تعبّر عن حالتها، فهي بمثابة تلك المرأة العربية الأصيلة العذراء والجميلة، تسبى من بيتها لتغتصب بعد ذلك بأبشع طريقة على مرأى ومسمع العالم أجمع، الذي لم يحرّك ساكناً أمام صرخاتها المتتالية، ونداء استغاثتها المتشبث بتلابيب كلّ صاحب نخوة وشهامة، لكفّ يد الغاصب عنها، إلا أنّ صيحاتها ذهبت أدراج الرياح، وانطبق عليها قول الشاعر المأثور "أسمعتَ إنْ ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي"، إذاً فالصمت العربي والدولي قد شرعا الاغتصاب السياسي، بدليل أنّ القدس لا زالت تُغتصب يومياً، منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا الحاضر، لتمتدّ جريمة الاغتصاب النكراء على مدار 40 عاماً، وتتطوّر تدريجياً، لتصل إلى مرحلة الحمل اللاشرعي، ولينمو جنين التهويد في رحم القدس نمواً بطيئاً مؤلماً، حتى شارف على الاكتمال، والكلّ العربي والإسلامي الرسمي والشعبي بدأ يشاهد آثار هذا الحمل اللاشرعي على جسد القدس ويغضّ البصر عن كلّ ما يراه بحجة (إذا بليتم فاستتروا) وكأنّ القدس هي التي زنت طوعاً ولم يُزنى بها رغماً عنها، ومرة أخرى، ها هو الصمت المقيت يشرّعه الحمل الباطل، ومن الجليّ للعيان أنّه لم يبقَ أمامنا إلا تحصيل حاصل فصول الجريمة البشعة باكتمال فصلها الثالث، فحصيلة الاغتصاب والحمل اللاشرعيّيْن ستكون الولادة القصرية الفاسدة للهيكل المزعوم، فكل المؤشرات السياسية والجغرافية الصادرة عن جسد القدس الحزينة تفيد باكتمال نمو الهيكل وما الكشف المتعمّد عن تفاصيل بعض الحفريات والأعمال الدائرة حول وفي باطن القدس، إلا تمهيداً لعلامات المخاض الأولى، التي تسبق عملية الولادة وتهيّء المحيط السكاني العربي والإسلامي للواقع الجديد معلنة بذلك، قدوم المولود العبراني.
هذا الكلام ليس خيالاً، ولا تؤثراً بنظرية المؤامرة، فبكلّ مرارة، هذه هي الحقيقة المؤلمة، فالذي تأمّل ملياً في صورة الهيكل التي نشرتها بعض التنظيمات اليهودية الدينية المتطرفة إبان انتفاضة النفق في العام 1996، سيكتشف بأنّ الكنيس الذي يتم بناؤه هذه الأيام قبالة قبة الصخرة المشرفة، ما هو إلا اكتمال بناء أحد أبراج الهيكل، فالبنية التحتية وكلّ مرافق البناء الأخرى قد تم إنجازها تحت المسجد الأقصى والمنطقة المحيطة به، ولم يبقَ إلا ظهور الشكل الخارجي على سطح الأرض، والتلة الترابية، بالإضافة إلى الغرفتين في باب المغاربة والتي تعكف السلطات الاحتلالية على إزاحتها بهدف بناء جسرٍ يمتدّ من الحيّ الاستيطانيّ اليهودي إلى باب المغاربة المؤدّي إلى باحة الأقصى الذي تزعم الرواية الصهيونية المزوّرة أنّ اسمه (جبل الهيكل) ما هو إلا بداية شبكة الطرق التي سوف تربط أعضاء الهيكل في بعضها البعض ومن خلال اتّباع سياسة خلق الأمر الواقع التي تنتهجها سلطات الاحتلال والتي ستأتي على مراحل متتالية:
أولها: اكتمال بناء الكنيس الذي سيظهر بشكلٍ هندسي ينسجم مع طبيعة القدس العمرانية ليمثل فيما بعد أحد أبراج الهيكل، وآخرها سيكون ظهور أجزاء أخرى في باحات المسجد الأقصى ليقسّمها إلى نصفين. أوَ لمْ يقسّم المسجد الإبراهيمي من قبل، وها هو اليوم أمر واقع، فمن راهن على الصمت العربي في المرحلتيْن السابقتين، لماذا لا يراهن على الصمت في المرحلة الثالثة والأخيرة أو على الأكثر أصبح يدرك بأنّ ما سيكون ردة فعل شعبية عربية وإسلامية يمكن امتصاصها في غضون عدة أيام، وليس خافياً على أحد ما كشفت عنه التحقيقات الفلسطينية بخصوص المنظمات الصهيونية المتخصصة بشراء العقارات من أصحابها الفلسطينيين، ومن أشهرها المنظمة المعروفة باسم (عطيرت كوهنيم) التي كانت ولا زالت تمارس شراء الأملاك والبيوت متبعة سياسة مبتكرة، اسمها (الشراء حتى الموت)، حيث تعرض على بعض المواطنيين الفلسطينيين وخاصة المقدسيين منهم استعدادها لشراء ممتلكاتهم في مدينة القدس بمبالغ خيالية على أنْ تستلمها منهم بعد موتهم. فإذا كان المجتمع الفلسطيني سيحاسبهم على ذلك ويتهمهم بالخيانة ويعرّض حياتهم للخطر، فما عليهم إلا قبض ثمن بيوتهم والتوقيع على الأوراق القانونية الخاصة بذلك، مقابل استمتاعهم بالأموال التي سيتلقّونها، والبقاء في منازلهم حتى تأتيهم ساعة المنية، وبعد الموت فليقل عنهم المجتمع ما يقول وليس سراً، عندما نقول إنّها نجحت مع القليل الذي كان يخشى الرادع الموضوعي المجتمعي، ويفتقر للرادع الأخلاقي، والأخطر من كل ذلك أنْ تكون هذه السياسة قد امتدّت لتنال من ما هو أبعد من المواطن العادي لتصل إلى عمق بعض المؤسسات العربية الرسمية في الوقت الذي تبقى فيه صفقة المصادرة والصفقات الزائفة بحجج واهية، هي السمة الغالبة لممارسة المؤسسات "الإسرائيلية" ومن ضمنها ما يسمى (حارس أملاك الغائبين).
نحن الفلسطينيون، لن ندّخر من جهدنا للدفاع عن مقدساتنا الإسلامية والمسيحية، وقَدّمنا ولا زلنا نُقدّم أرواحنا رخيصة على عتباتها المقدسة، وهذا لم يعدْ يكفي لحمايتها، فإلى جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وأميناها العاميّيْن وإلى كلّ صناع القرار السياسي العربي والإسلامي أصحاب العلاقة الأكثر احتكاكاً بالقضية الفلسطينية كلّ باسمه، إلى أصحاب الجلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين والملك الأردني الهاشمي عبد الله الثاني، والملك المغربي محمد السادس رئيس لجنة القدس، وإلى رئيس جمهورية مصر العربية الرئيس محمد حسني مبارك، هذا نداء القدس في مخاضها الأليم يستصرخ عروبتكم ونخوتكم، الآن وليس غداً، فإما موقفٌ سياسيّ رسميّ، حاسم، يساعد القدس على حريتها بإجهاض الحرام الذي يتلوّى بين أحشائها، وإما مزيداً من الصمت يُشرّع الحرام بولادة الهيكل وإن بعد حين، هذه دموع القدس في حضرتكم، فهل ستجففونها بمنديل عمر ومنديل صلاح الدين؟.